لماذا نكذب؟ بغض النظر عن الدراما...كل سلوك هو نتاج ثقافة كاملة


ما نره اليوم من حالات حول الأعمال الدرامبة ونفس الجمهور الذي يتذمر هو الذي يشاهد ويمنح هذه الأعمال سلطة التواجد في السوق اشهاريا.... هذه الخلفية اعادتني إلى اصل القصة: الكذب... لماذا نكذب؟ بغض النظر عن الدراما، كل سلوك هو نتاج ثقافة كاملة.... لماذا نكذب اذن؟

 يطلب الناس مساعدتهم أيضا في إيجاد الكذبة المناسبة. صار الأمر أشبه بفن يتطلب مبدعا متمكنا من اختلاقه. حتى تنطلي الكذبة على الاخر لا بد أن يتم اخضاعها لمقاييس واضحة: أولا يجب أن تكون متلائمة مع صاحبها وثقافته وبيئته ومستواه العلمي ويجب ألا تكسر توقعات الاخر منه وتحقق الهدف المرجو اما التنصل من خطأ ما أو تبرير هفوة ويظل الهدف الأكبر التمويه والخداع من أجل الإبقاء على المصلحة والحفاظ على توازن العلاقة مع الاخر. يخاف الناس الخسارة حتى لو كانت علاقة زائفة. أنا مثلا أجد متعة في بناء الكذبة وممارسة هذا الخبث أو الدهاء ففيه أيضا اختبار مهارات فكرية ما وأحيانا وأنا بصدد الاستمتاع بهذه الحالة يدخل ضميري على الخط فيفسد كل الملعوب. وأحيانا أسترق السمع لأحدهم وهو يسخر ممن انطلت عليه كذبته ويتباهى بذكائه المفرط في التلاعب بعقل الاخر وتمرير الرسالة التي يريد دون أي مجال للتشكيك فيها. 

لا أعتقد أن بيننا شخصا لم يكذب قط الا هواة التشبه بالمثاليين المتخيلين طبعا. اننا نكذب في كل مكان وبكل الأدوات واللغات. وأنت أيضا أيها القارئ لك أن تتذكر كذبتك منذ قليل فقط قبل فتح هذا المقال...

وسألت نفسي أيضا : متى أول كذبة؟ ربما قبل سطر أو سطرين أو قبل دقيقة أو أمس أو قبل أمس أو قبل شهر أو ربما سنتين أو سنتين من قبل؟ مع أول حرف كنت أنطقه بصعوبة وأنا طفلة تكونت الكذبة الأولى. كذبتنا الأولى طفولتنا. كنا نتعمد البكاء أو نمثل البكاء حتى تمتثل عائلاتنا لرغباتنا. البكاء كذبتنا الأولى. ومن منا لم يتنصل من فعلة ما بالكذب للافلات من عقوبة الأهل؟ ومن منا لم يورط شقيقه أو صديقه ويلصق به الخطأ؟ ومصدر الفخر أن ننجو بكذبة. فبالنسبة لنا قمة العبقرية بالضبط مثلما يجلس اليوم مجموعة من الأصدقاء يستعرضون بطولاتهم في الأكاذيب والتلاعب بالاخرين. الكذب موجود داخل كل فعل بشري ولكن بتفاوت وبطرق مختلفة.

و أول ما تعلمت النطق كذبت أيضا. كذبت حين كنت أقول لامي لست انا انها اختي من قامت بذلك. أولا كان الكذب للنجاة من ضرب أمي وبعدها أصبح للنجاة من المعلم والأستاذ وبعدها صار لاغواء شريك الحياة المفضل لديا.

غريب هذا الانسان: انه ينشأ على فكرة البحث عن حقيقته وحقيقة وجوده وحقيقة من حوله ويبحث في حقائق الاخر ولكن كلما خطا خطوة نحو حقيقة ما صرف من أجلها الكثير من الأكاذيب. لماذا نكذب؟ ولم ننزعج حين نكتشف الكذبة ونحن بالفطرة نكذب؟ وهل الكذب تجاوز أخلاقي؟ ومن أتى بفكرة تلوين الأكاذيب بين بيضاء وغيرها؟ لماذا نحن في حاجة للكذب؟

ان هم الانسان منذ ولادته ضمان بقاءه داخل مجموعة، يتصيد فرص الانتماء والاحتواء. يخاف الوحدة والعزلة. لهذا يجتهد من أجل الحفاظ على انتمائه لهذه المجموعة أو تلك. يقدم تضحيات. يقدم تنازلات في اطار منظومة الاتصال والتواصل مع الاخر. يتواصل خطابيا أو بالاشارات أو أيضا بالكذب. الناس يحبون من يكذب عليهم، لانهم بكل بساطة ترعبهم حقيقتهم. يريدون من يجاملهم ينافقهم ولا يذكرهم بعيوبهم. فلو قلت لشخص: كم تبدو جميلا وهو العكس تماما سيسعد بك ويهلل لكلامك ولكن لو قلت الحقيقة ستكون أول عدو له وسيعتبرك من حاسديه. لو قلت لأحدهم عملك غير جيد حاول ان تتدارك أمرك. سيعتبر ذلك تعمدا لاحباطه. ولكن لو زيفت الحقيقة ومدحته ستصير من أقرب المقربين اليه. أنت جميل ، انت ناجح ، أنت طيب ، أنت أفضلهم ـ أرقاهم ـ اطيبهم وأنت المتميز المتألق. يعشق الناس هذه الكلمات الرنانة ولو قلت عكسها، يحاسبك الجميع ويعتبرونك : وقحا، لا تفهم حتى في "الاتيكات" ...

وكأننا نقول بذلك : كلما توصل الانسان الى حقيقته كلما اعتنق الكذب أكثر حتى يخفي هذه الحقيقة. انه لا يريد أن تعريه الحقيقة فيختار الكذب غطاء.  يريد المحافظة على خصوصية ما على هذا الجانب السري في حياته، وربما أيضا على الجميل الذي لا يريد ان يطاله الاخر فيشوهه. وكأننا نقول أن الانسان الأكثر فطنة وذكاء هو الأكثر اختلاقا للكذب. وكأننا نقول أيضا أن الانسان الذي يحب فردانتيه ولا يريد الذوبان داخل المجموعة يبقي جانبا ما من حياته في الكواليس ويضع في الظاهر الكذب بديلا.

ولكن لم عليّ انا كفرد الذوبان حتى أرضي المجموعة؟ ولم عليّ أصلا إرضاء المجموعة؟ لماذا بجب عليّ العيش بطريقة معيارية أي على قياس كما يجب أو كما يلزم أو لابد من كذا ...أي شيء نتاج للعقل البشري قابل للدحض والتغيير أو أيضا للتأكيد. طبعا لا أدعو الى حياة الفوضى. فكل شخص حر يعيش بالضرورة داخل الأخر والاخرين. المعادلة واضحة: مادام السلوك لا يسبب لي ضررا فبالضرورة لا يسبب ضررا للاخر.

لي صديق يسميني "غوغل" لان أول خطوة أقوم بها لفهم شيء، أسأل "غوغل". حتى حين اكون في مكالمة هاتفية مع أحدهم وحتى لا أحرج نفسي وأبدو أقل ثقافة من هذا الأحد، أشغل غوغل على الهاتف وأوكله مسؤولية عدم احراجي وكل كلمة يقولها الاخر يفسرها فأتحذلق أنا على الاخر وأدعي المعرفة وهي كذبة أيضا.

سئلت مرة حنة أرندت هل مازلت تحبين هايدغير نفت ذلك وهي كانت في مراسلات معه تعبر عن هذا الحب الذي تتنفسه الى اخر يوم في حياتها.

فعلا نحن بحاجة للكذب:

-       لاسعاد الاخر، يلزمنا كذبة ما ...

-       لاني أحترمك، لا أريد احراجك بحقيقتك فأقول لك كذبة ما ...

-       لاني أخاف عليك من نفسك، أكذب عليك...

-       لان الطبيعة تخونني دائما، اني أكذب لتعرف حقيقتي التي تخفيها عنك طبيعتي

-       لاني أريد ان أكون معك، أكذب عليك ...

لو أردنا لكتبنا المئات من الكوجيتو الإنساني حول الكذب...لا يستطيع الانسان الا يكذب. ان هذا الانسان التي تفرض عليه تركيبته النفسية الحاجة الى التفوق الى مزيد اعلاء الأنا العليا، ان أفلتت كلماته من الكذب تورطت حركاته. الكذب أيضا حركة لا ارادية. حلا سريعا وسهلا. انه أكلة fast food  لغذاء مزيف للروح .

ويظل الأكثر كذبا من يقول على الملأ: ما كذبت في حياتي. يكذب الناس لأنهم يخافون الحقيقة وكلما اشتد بهم الخوف، كثرت أكاذيبهم.

وفي أيامنا تشظت الكذبة الواحدة وصارت كذبتان: الكذبة الواقعية والكذبة الافتراضية. تأتي الواقعية في شكل خطاب منطوق أو غير منطوق مترجم في الإشارات. أما الافتراضية فهي أشكال مختلفة ومتعددة. الكذبة الواحدة نراها في الصور، التعاليق، التفاعل ، المناشير المشاركة والتي لا تعكس حقيقة موقف الفرد وانما موقف الأغلبية التي يريد الانتماء لها. وهذه الممارسات في كل التطبيقات الأخرى، الانستغرام ، التيك توك ، سنابشات، تويتر. بالإضافة الى التقنية في حد ذاتها التي تطورت لتقدم هاتف جوال باخر صيحة في التطبيقيات على مستوى الصورة والفيديو وقصة الفيلتر والتركيب. يمكنك الاتصال بأحدهم ووضع المكالمة في اطار غير الاطار الذي أنت موجود. يمكن التصرف في لون البشرة، لون العيون، الزمن المكان كل شيء صار مصنع ومصطنع ومبطن بالأكاذيب. بالضبط كتلك التي تقوم بتركيب عدسة بلون مختلف عن عينها الأصلية وتتباهى بجمالها. هذه أيضا حاجة للكذب من أجل افتعال التوازن النفسي . خداع النفس أو خداع الاخر لا يهم مادام هذا الانسان سعيد بصورته التي يصنعها بوهمه وزيفه.

ان الضغط والمشاكل اليومية وصعوبة الحياة درجة فدرجة واخرها انتشار الوباء والانغلاق على الذات يجعل الانسان يبحث عن مخرج من هذه الظلامية: يحتاج الأمان، يحتاج السعادة ويحتاج الفرح، والشيء الضامن لتحقق ذلك بأقل الام وعذابات ممكنة هو الكذب.

قال مرة أحدهم : أليس الانسان يجذب ما يدور في خاطره أو ما يتهيأ له أنه قد يحصل معه، اني أكذب اذن بمنطق التفاؤل بالجميل الى حين جذبه. لنضحك اذن.

تعليق جديد

بثينة عبد العزيز غريبي




مقالات أخرى للكاتب

بثينة عبد العزيز غريبي