كتاب " الكلام المضلل" لفيليب بروتون: ماهو "بزنس الكلام" أو الخداع والتمويه في الخطابات؟


لو أردنا مثلا دراسة الخطاب السياسي في تونس من خلال فيليب بروطون فلن نجد نموذجا أكثر أهمية لدراسته غير رئيس الجمهورية قيس سعيد نموذجا عن الذي من أسباب وصوله للسلطة لفت الانتباه بطريقته الخطابية وبناء نصه. فقد كان مثيرا ولافتا في البداية وهو ما جعل الجمهور يهتم بأسلوبه في الالقاء أكثر منه برنامجه وربما لهذا السبب يواصل بنفس المنهج الخطابي في اعتقاد منه أنه قد يضمن نفس التأثير إلا أنه فاته أن التكرار قد يفضح الثغرات الاتصالية. ومن خلال كتاب " الكلام المضلل" لفيليب بروتون، يمكن للقارئ أن يفهم حيثيات خطاب قيس سعيد وأسلوبه في التواصل.

فيبليب بروتون هو باحث فرنسي بمختبر السوسيولوجيا الثقافية الاروبية في ستارسبورغ وله بحوث في علوم الاعلام والاتصال. له مجموعة من الكتب كـالحجاج في الاتصال  L’argumentation dans la communication وانفجار الاتصال  L’explosion de la communication. وهو من بين الباحثين الذين يشتغلون على الكلام و المحاججة والاعلام ايمانا منه ان لا تواصل دون استراتيجيات تتغذى من خطاب حجاجي مبني على تقنيات الاقناع وقد اشتغل على خطاب العديد من السياسيين مثل  نيكولا ساركوزي وغيره.

واليوم مع تطور وسائل الاتصال الخارق وظهور الميديا الجديدة اتسع الفضاء العمومي بالمفهوم الهابرماسي للخطابات. وبقدر ما تكثر هذه الخطابات بقدر ما تتطور أساليب الخداع والتمويه والتضليل. لقد تحول الأغلبية الى ظواهر كلامية تترجمها وعود السياسيين واستعراض النخبة لدورها الذي لم يتعدى حدود الكلام. من هذا المنطلق كانت لنا عودة الى كتاب الكلام المضلل لفيليب بروطون.

ماهو الكلام وماهو التضليل؟

يعرف بروتون الكلام فيقرنه بثلاث معاجم أساسية (صفحة 28 ) تكونه: التعبير ، المعلومة والاقناع.  فالاقناع تجربة خاصة بالجنس البشري وان كانت الحيوانات تتواصل فيما بينها وتمرر معلومات فان حلقة "الاقناع" هي ما تميز الانسان عن بقية الكائنات. ويميز بروتون بين الاقناع والتضليل. فالاقناع فيه محاججة وتمكين المتلقي مساحة حرة للتفكير والاختيار وبالتالي المحاججة ضمانة للديمقراطية في الفضاء العمومي بينما أن التضليل يكرس العنف والتعسف والاكراه واللا ديمقراطية.

ويقر بروتون أن التضليل la manipulation  " هو اقتحام عقل شخص ما بتقديم رأي أو اثارة سلوك دون أن يدري هذا الشخص  أنه حصل له اقتحام وبالتالي فالتضليل مناورة صامتة تعمل على توجيه الجمهور نحو ما يريده الباث بطرائق لا تخرج في كل الحالات عن الخداع والكذب."

ويحصل التضليل على مراحل منها :

  • أولا: ايهام المخاطب او المتلقي بأنه حر (وهي من نوعية الرسائل التي يعتمد عليها الاشهار) .
  • ثانيا : تمرير الرسالة وتوجيه المتلقي الى خيار الباث دون ان يكون على وعي بذلك لأنه يكون في مرحلة قد أشعره خلالها هذا الباث بالأريحية (الوهمية) اذ خدعه بفكرة الحرية.ومن هذا المنطلق يخلص بروتون الى أن التضليل كإكراه هو  ممارسة العنف على المتلقي. وهنا يتوقف بروتون عند الدراسات في علوم الاتصال التي انتقدت مسار التأثير الذي "يعدم" دور المتلقي ويجعل منه "كسولا" في تلقي الرسالة الإعلامية.  ويحملنا بروتون مباشرة الى سؤال الباحث الأمريكي كايتز حول ماذا يفعل الناس أو الجمهور بالميديا؟ وليس العكس ماذا تفعل الميديا بالناس؟

 

بين التضليل الوجداني والتضليل المعرفي؟

قارن بروطون بين التضليل الوجداني والتضليل المعرفي. أما التضليل الوجداني فهو يحيلنا على اللعب على المشاعر والانفعالات والعواطف من خلال مجموعة من التعابير الكلامية والايمائية أيضا يفرزها النص المنطوق الذي تدعمه الإشارات .. ومن التقنيات المعتمدة في الكلام: الاغراء، التنوع الايحائي، التكرار وأيضا ملامسة روح المتلقي بنوعية من الاستعطافات التي توقع به في الفخ. أما التضليل المعرفي فيقوم على استخدام معطيات حقيقيىة وتوظيفها او تحريفها عن مفهومها الأصلي حتى تخدم الرسالة او الغاية من الرسالة.

ويطنب بروتون في ذكر الأمثلة في الخطابات السياسية التي تقوم على التضليل وهي في النهاية "تساوم" المتلقي لعل اشهار خطاب جورج بوش حين حارب الإرهاب وكيف قال من ليس معي ضد فهو بذلك يضع المتلقي امام خيار واحد.

قال فيليب بروطون في نهاية كتابه "الكلام المضلل " :" حان الوقت للتفكير في الانفتاح على بيئة تضمن حرية حقيقية على مستوى "الكلام" "parole " من أجل ضمان الديمقراطية . « انه يدعو الى ضرورة الانتباه الى الخطابات وتحليلها عقلانيا. فالكلام جزء من العملية الاتصالية وبالتالي فهو بديهيا حمالا لعدة معان مما جعل أحد الباحثين يتكلم عن "بزنس الكلام" الذي وجب تفكيك الياته فك شفراته.