معاناة الاقتصاد التونسي: حين نخلط الجانب الاجتماعي بالجانب الاقتصادي


يكمن الداء الكبير في اقتصادنا التونسي بصفة عامة منذ الاستقلال، في خلط الجانب الاقتصادي بالجانب الاجتماعي، إذ يشجع المناخ الاقتصادي العام على الخمول بدل العمل، على "التكنبين" بدل الشفافية وعلى إرساء منظومة "تدبير الراس" و "المسمار في حيط" والسعي الدائم للربح السهل، وذلك على حساب قيم المثابرة والاجتهاد والعمل. وهذه بعض الأمثلة وتبعاتها الخطيرة على مجتمعنا وتأثيرها على منوال التنمية.
 
أمّا عن الوظيفة العمومية، فقد تم تطويعها من قبل الحكام لإدخال الموظفين بالعدد الكبير لغايات سياسية أو اجتماعية. ولذلك نجد مدرسة في منطقة نائية تتمتع بـ 50 حارس ولا أحد يقوم في الواقع ما عليه كما يجب. وهنا تم التشغيل من منطلق اجتماعي وليس اقتصادي. قد تجدون طبعا هذا المثال كاركاتوريا لكن كل المنشآت العمومية تعاني من نفس المشكل حيث غلب الهدف الاجتماعي على الهدف الاقتصادي الذي غاب كليا.
 
وفيما يتعلق بتسعيرة المنتجات الفلاحية، نأحذ مثال الحبوب والحليب والطماطم، هذه المنتوجات الموجهة للتحويل الصناعي، إذ تعتبر تسعيرات هذه المنتوجات ظالمة لمن يخلق الثروة أي الفلاح. هذا الفلاح الذي اعتمدت عليه الدولة كصندوق دعم للصناعي و"الوكال" ، مما يساهم في انخفاض مداخيل الفلاح وتعيق قدرته على الاستثمار وخلق الثروة . ويساهم هذا في نقص الانتاج الفلاحي ويؤثر على إمكانية المواطن من الحصول على هذه المنتوجات بأرخص الأسعار.
 
هذا الوضع الاجتماعي، لا يشجع للأسف، أي مواطن على العمل والاجتهاد لأنه حتى دون عمل فمن السهل الحصول على المواد الأساسية . وهذا حال أغلب شبابنا العاطل عن العمل رغم وجود بعض فرص العمل، إذ يفضل قضاء الوقت بالمقهى مقابل 5 د تعطيه اياها والدته، عوضا عن العمل يوما بأكمله.
 
أمّا عن الدعم، فيساهم في توفير سبل العيش لكل من لا يجتهد ويساهم في تدني الأجور بصفة عامة وينقص من قدرة الدولة على الاستثمار من ناحية ويعطي فرصة من ذهب لتمويل المهربين، حيث يعتبر صندوق الدعم بنك التمويل الأول لأعمالهم ويعطيهم مداخل كبيرة لفساد الموظفين. ويجب اعتماد حقيقة الأسعار من ناحية و توجيه الدعم لمن يستحق فعلا  بدل تبذير المال العام في الاستهلاك.
 
تدني الأجور عامل أساسي على تدهور الاقتصاد
 
كما ساهم تدني الأجور بالقطاع العمومي في تدهور الوضع الاقتصادي حيث سعت الدولة إلى تدني الأجور حتى يمكنها دفع أجور الكم الهائل من الموظفين الذين تم تشغيلهم لأسباب اجتماعية. وتسبب هذا الوضع في هذا في هروب الكفاءات من ناحية واستشراء الفساد من ناحية أخرى بعد أن أصبح مرتب المواطن العادي لا يكفي للعيش الكريم. وأصبح بالتالي الفساد مستشري و عام  و انتشرت ثقافة "تدبير الراس" وثقافة  "كل خطوة برخصة" و "لازم الخدمات الكلها تولي عندها سومها"، بل أصبح الفساد قاعدة  اجتماعية، وعوض أن تكون الإدارة عاملا مساعدا  على خلق الثروة، أصبحت عائقا كبيرا على تحقيقها. 
 
كما أن هذه الظاهرة تولد الاحساس بالظلم وتساهم في هجرة الكفاءات بعد أن عجز القطاع العمومي على استقطاب الكفاءات، ليصبح القطاع العمومي بالتالي هيكلا عاجزا على التفكير ورسم السياسا، بل إنه اصبح أكثر من ذلك، هيكلا معطلا همه الوحيد التواجد والاستمرار.
 
إضافة إلى ذلك، يساهم تدني الأجور بصفة عامّة، في خلق الزبونية والنظام الريعي حيث يستغل البعض ضعف الإدارة للسيطرة على قطاعات بعينها وقطع الطريق للاستثمار.
 
أمّا عن تدني الأجور بالقطاع الخاص، فإنّ جلّ القطاعات محكومة باتفاقيات مشتركة تحدد الأجور وتأخذ بعين الاعتبار الدعم الحكومي والأسعار المتدنية (الدعم على حساب مصلحة الفلاح) والتفاوض السنوي بين نقابات العمال والأعراف التي غالبا ما تكون الحكومات الى جانبها فتنجح في الحد من الأجور، لتكون دائما الربحية غير متكافأة بين رأس المال و العمل لصالح رأس المال. ويساهم هذا الوضع في احباط للعمال من جهة، ولا يشجع من جهة أخرى على الاجتهاد. ويعجز هكذا العامل على تحقيق أهدافه من العمل، فيكون عبرة للعاطل عن العمل الذي يمكنه الراحة  و توفير سبل العيش بطرق أسهل.
 
الضغط الجبائي والعمل الموازي
 
تسعى الدولة بدورها إلى تعبئة الموارد عبر جميع السبل المتاحة من الموارد، فتضغط على المقدرة الشرائية للأجور عبر الجباية الغير مباشرة  وضريبة الاستهلاك والضريبة على القيمة المضافة لترتفع كلفة المواد الاستهلاكية في السوق المنظمة لصالح العمل الموازي والأسواق الموازية أو السوداء التي تمثل منافسة غير شريفة للقطاع المنظم فتنهكه وتساهم في اندثاره تدريجيا. فيتمّ هكذا إقصاء العمال وارتفاع نسبة البطالة.
 
كل ما سبق ذكره يصب في خانة تشجيع العمل الموازي المتهرب من الأداءات والاداءات الاجتماعية  والعمل في السوق الموازية التي تزدهر بارتفاع الاداءات الغير مباشرة و ارتفاع الضغط الجبائية. كما تزدهر هذه السوق الموازية بفساد الإدارة وتكاثر التعطيلات الإدارية وتسهل ثقافة "تدبير الراس" عوضا عن العمل.
 
هكذا نساهم عبر هذه السياسات في الحد من قيمة العمل  وتسهيل الحياة لكل من لا يعمل  ولا يجتهد. ونتقاسم بذلك الفقر ونحد من قوة كل من يخلق الثروة ، بل ننهكه  حتى نتمكن من توفير احتياجات كل من لا يعمل.
 
تلك هي ثقافتنا ومسبباتها وعلينا بالبدأ بفصل الجانب الاجتماعي عن الجانب الاقتصادي والعمل على تحقيق حقيقة الأسعار في كل شيء لاسيما المواد الأساسية والأجور. وعلينا أيضا مكافأة الاجتهاد والعمل ...ليصبح للعمل قيمة  وهكذا يتغير منوال التنمية.