الحركات الاجتماعية والسياسية في تونس: تشتت ينذر بزوالها



منذ 2011، ترسخت لدى التونسيين على اختلاف توجهاتهم وآرائهم، ثقافة الاحتجاج، حيث بلغ عدد الاحتجاجات خلال شهر نوفمبر من سنة 2021، 873 احتجاجا حسب تقرير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية  لشهر نوفمبر 2021. وقد تعددت آليات الاحتجاج فكان منها إغلاق مقرات العمل وغلق الطرقات وإضرابات الجوع والوقفات الاحتجاجية. ولعل تنوع المطالب الاحتجاجية التي أساسها اجتماعي وتداعياتها سياسية باعتبار أن الرسالة الاحتجاجية هدفها السياسي ومحدد سياسات الدولة بصفة عامة، يكشف هشاشة الوضع الاجتماعي في تونس. من ناحية أخرى، فإن تنوع الحركات وكثرتها وانقسام آرائها هو لا يعني قوة هذه الحركات وترسيخها كأداة ضغط وإنما مسيرتها نحو الزوال.

 ويعرف بدوره تايلور كيانجاTaylor Keeaga الحراك الاجتماعي على أنه "عادة الإجابة لمشكل الاجتماعي" فيما يعرف سنو Snow  وسول Soule وكرايسيKreisei  الحركات الاجتماعية على أنها إحدى الأشكال الاجتماعية الرئيسية التي من خلالها تعطي الجماعات صوتا لمظالمها واهتماماتها بشأن حقوقها ورفاهيتها وحسن عيشها مع الآخرين وذلك من خلال الانخراط في أنواع مختلفة من العمل الجماعي، مثل الاحتجاج في الشوارع الذي يضفي طابعا دراميا لتلك المظالم والمخاوف والمطالبة بعمل شيء حيالها. وعلاوة على ذلك فإن الحركات الاجتماعية هي في الأساس صراعات حول تعريف وبناء الواقع الاجتماعي، فهي تقوم على توعية الناس بأن النظرة المقبولة عموما للواقع الاجتماعي التي ترعاها المؤسسات السياسية والاجتماعية والدينية والتعليمية والقانونية والأدبية والإعلامية خاطئة ويجب ‏فعل شيء حيال ذلك.   

الشعب التونسي تحت وقع نظرية الحرمان

عديدة هي النظريات المؤطرة للحركات الاجتماعية لعلّ أبرزها نظرية الحرمان Deprivation Theory. وفي هذا الخصوص، يقول فونغ باشيت  PhongPaichit بأنه مع بداية خمسينيات القرن الماضي، شهدت الولايات المتحدة وأوروبا انفجارا في عدد الاحتجاجات والمظاهرات ضد الحكومات والسياسات الحكومية والممارسات القائمة آنذاك، حيث كان هناك حركة الحقوق المدنية والحركة المضادة لحرب الفيتنام والحركة النسوية والحركة البيئية... كما شهدت أوروبا نماذجا من الحركات النسوية والبيئية والحركات المعادية للاستعمار كالحركة المعادية لاستعمار الجزائر بفرنسا. ومع بروز هذه الحركات تجلى التساؤل حول أسباب ظهورها وتناميها فكانت أولى النتائج، هي نظرية الحرمان التي رأى مؤيدوها بأن عديد الحركات الاجتماعية "تولد عندما يشعر بعض الناس أو مجموعات معينة في المجتمع بأنهم محرومون من بضاعة معينة أو خدمة أو مورد معين".

وبناء عليه ، فإن الشعب التونسي يدافع منذ 2011 عما حرم منه وهو التشغيل وحقوق العمال وتحسین الوضعیات المھنیة وتحقيق التنمية ومكافحة الفساد وغيرها من الحقوق التي لم يتمكن من كسبها المواطن التونسي على مر السنين. واستنادا إلى ما سبق، "أصبح المواطن اليوم يرى في الشارع حلا لأزمته ووسيلة لإيصال صوته لمن لا يسمعه أو يراه ". 

الحركات الاجتماعية : مع ضروة توحيد الآراء وبناء حراك اجتماعي واحد يتحدث باسم الجميع 

يعتبر نموذج أرماند موس Armand L. Mauss إحدى أهم النماذج التي تفسر تطور الحركات الاجتماعية، حيث شدد أرماند موس على أهمية التركيز على التفاعلات المستمرة بين الحركات والحكومة والبيئة الاجتماعية الأوسع ذلك أن بحثه قد قاده إلى استنتاج أن الحركات عادة وإن لم يكن دائما، تمر بخمسة مراحل وهي  البداية، الاندماج، الطابع المؤسساتي، التشرذم، الزوال. وتبدأ كل الحركات الاجتماعية عبر اختناق الناس من وضعية معينة (البداية)، ثم تنتقل الحركة بين المواطنين الذين يشاركون نفس المواقف، فيتبنونها (الاندماج). ثم يتحقق ضغط مجتمعي وإعلامي فتتلقى الحكومة إشعارا بالحملة ومطالبها، وتتفاعل عبر سن قوانين أو سياسات جديدة أو تقديم وعود بحل الإشكال (الطابع المؤسساتي). بعد ذلك، تبدأ الحركة في الانقسام داخليا عبر تقديم مقترحات جديدة من بعض الأعضاء أو محاولة التسيير نحو سياسات أخرى (الانقسام). وتنتهي كل الحركات الاجتماعية بالزوال ويكون إما عن طريق النجاح أو الفشل أو القمع أو إستمالة أعضائها عبر المناصب وغيرها (الزوال) .

ومن الواضح أنّ جلّ الحركات الاجتماعية في تونس قد بلغت مرحلة من التنوع (حراك أعوان الحظائر، حراك المعنيين بالقانون 38 حول التشغيل، حراك مواطنون ضد الانقلاب ...)، إذ أنّها تخفي انقساما. فصحيح أن كل حراك له مطالبه التي تختلف عن الحركات الأخرى، ولكن تعدد المطالب، أدى فيما بعد إلى إضعاف الحركات بل إلى تشتت السلطة كذلك في التعاطي مع المطالب المرفوعة (تشغيل، رفع أجور، مياه صالحة للشرب، إصلاحات، العودة إلى الدستور، حل البرلمان، عدم حل البرلمان، تطبيق الإعدام، عدم تطبيق الإعدام، إلخ).

وبالتالي لن تكون هذه الحركات الاجتماعية قادرة على تحقيق مطالبها، في ظلّ عدم توحيد الآراء وبناء حراك اجتماعي واحد يتحدث باسم الجميع، بل سوف ستزول إمّا عن طريق القمع أو الفشل أو استمالة أعضائها البارزين. كذلك ينطبق نفس البناء النظري على حملة #مواطنون_ضد_الإنقلاب التي تشهد تعددا في الآراء ومواجهة ميدانية مضادة مما ينذر بسيرها نحو الزوال إذ أنها مع عدم تحقيقها لمطالبها المرجوة، ستبدأ في فقدان الدعم الشعبي وبذلك إعلان نهايتها.