الرئيس قيس سعيد والفضاء الرقمي: الجيل الجديد من الصراعات السياسية وتجسيد الشخصية الروائية (الجزء الثاني)


ورد في الجزء الأول من هذا المقال المبوب تحت عنوان "الرئيس قيس سعيد والفضاء الرقمي: الجيل الجديد من الصراعات السياسية وتجسيد الشخصية الروائية" مقاربات وصفية تحليلية لتلك العلاقة المشهدية السياسية التونسية بتلك الروائية الدرامية متمثلة في رواية 1984 للكاتب الإنجليزي الشهير جورج أروايل التي تنذر بواقع تنعدم فيه الحريات وتفقد فيه الأحاسيس وتطمس فيه الأخلاق إذا إستمر الحال على حاله. 

غريب أمر أروايل، يكتب في أربعينيات القرن الماضي ليحذر العالم من خطر الاتحاد السوفياتي حينها، فكأنه يصف المشهد السياسي والوضع الاجتماعي في تونس اليوم. وقد كان ذلك واضحا من خلال روايته 1984، ولكنه أمر جلي كذلك في روايته " مزرعة الحيوان " Animal Farm التي نشرت سنة 1945 فكانت رسالة على لسان الحيوان تصف ما قد يصل إليه الإنسان من تمرد على جوهر الحياة الإنسانية (مصلحة الأخر قبل الذات وخدمة المجتمع قبل المقربين) ليكون حب النفس دستورا، وجمع المال قانونا، وخدمة المقربين أمرا مفعولا .

قيس سعيد وتمثل شخصيات كتابات جورج أورويل: رواية " مزرعة الحيوانأنموذجا 

 تدور أحداث رواية " مزرعة الحيوان " في مزرعة مانور Manor Farm التي يمتلكها السيد جونز Mr Jones ويعمل فيها مع مجموعة من الأشخاص المستبدين. رأت الحيوانات نفسها في حاجة إلى التمرّد ضدّ البشر، فتناقلوا فيما بينهم فكرة أنّ "الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يستهلك دون أن ينتج. هو لا يعطي الحليب ولا يضع البيض. وهو أضعف من أن يجرّ محراثا. ولا يستطيع الجري بسرعة كافية لاصطياد الأرانب. ومع ذلك فهو سيد الحيوانات ". لذلك  رأوا وجوب التخلي عنه ووضع سيد يليق بهم ويضمن حريتهم. 

تمت الثورة ضد السيد جونز، وتم تنصيب من رأى حيوانات مانور أنّه لائق بهم وبضمان حريتهم، فكان نابليون Napoleon الخنزير أكثر الحيوانات ذكاء وقوة. وهو أيضا يحب الجميع ويحرص على عدم عودة البشر المتسلطين عليهم لمنصب القيادة حسب رأيهم. وفي أجواء الفرح والتهليل، تسلم نابليون السلطة رافعا شعار" الإنسان هو العدو الحقيقي الوحيد لنا. إن أبعدناه عن المشهد، زال إلى الأبد السبب الجذري للجوع والإرهاق ". ثم أضاف أن الإنسان " لا يخدم مصالح أي مخلوق سوى نفسه".

ثمّ ما إن إستلم القائد الجديد الحكم حتى أصدر مرسومه إلى سكان المزرعة، ذكر فيه ثلاث نقاط : 

  1. "كل ما يسير على قدمين فهو عدو - كل ما يمشي على أربع أرجل أو له أجنحة ، فهو صديق
  2. لا يجوز للحيوان ارتداء الملابس - لا يجوز أن ينام أي حيوان في سرير“
  3. جميع الحيوانات متساوية"

"كل ما يسير على قدمين فهو عدو - كل ما يمشي على أربع أرجل أو له أجنحة ، فهو صديق"

تمثلت النقطة الأولى من توصيات القائد نابليون في أن كل البشر(السائرون على الأقدام) هم أعداء. وقد زرعت هذه الفكرة في أذهان "الرعية" فكرهوا البشر دون سبب، إذ بات فكرهم يقول بأن " كل البشر هم السيد جونز، كل البشر مستبدون ".

في الأخير وجد الحيوانات أن زعيمهم أصبح يسير على خطى السيد جونز، بل وأصبح يجلس على نفس الطاولة مع البشر، يأكل ويشرب ويخطط معهم كيف سيواصل حكمه في المزرعة حتّى أن نابليون أصبح يمشي على قدمين مثل الإنسان ليقول إنه قد أخطأ في الحكم على البشر وأن الشعار الجديد هو "أربعة أرجل جيدة، ولكن قدمين أفضل ". 

ولأعود إلى واقعنا، فأتحدث عن المشهد السياسي التونسي الذي اتسم دائما برفض الشعب للظلم والقهر وإن طال، ألم يثر التونسيون منذ 2011 على نظام مستبد ليصلوا إلى نظام ديمقراطي؟ يكون نظاما قادرا على ترسيخ الحرية والحقوق الإجتماعية التي تضمن حماية الأفراد وتسعى لراحتهم مقابل واجبات يقوم بها المواطن في إطار الخدمة المجتمعية واستمرار الدولة. فإلى ماذا وصلنا اليوم؟ 

منذ سنة 2011، حسب #أنصار_الرئيس_قيس_سعيد، ازدادت معاناة التونسيين وتم طمس كل المبادئ التي جاء من أجلها التغيير. ثم يجيب #مواطنون_ضد_الإنقلاب (الرافضين لبيان 25 جويلية 2021) بأن الرئيس قيس سعيد هو " انقلابي " يسير على خطى السابقين وأنه لا سبيل لعودة الدكتاتورية. في الأثناء، تحول الصراع من ارض الواقع إلى العالم الرقمي عبر الفايسبوك وتويتر، لتكثر الإدعاءات والافتراءات وتجد الأخبار الزائفة أرضية خصبة لها محولة كل من يمشي على إثنين إلى عدو إذا كان يساند الرأي المخالف.  ومن يدري لعل كواليس السياسة تجمعهم على طاولة واحدة ليحددوا مسارات الدولة السياسية والتنموية والمجتمعية ... والشعب يتقاتل ويتنافر في ما بينه ليلا ونهارا عبر منصات التواصل الاجتماعي (شتم وثلب وادعاء وحملات تشويه وشيطنة...) وكل رأي يعتبر نفسه الأصدق والأحق وصاحب الشرعية والمشروعية .

صورة من صفحة حركة نهضة تونس  لمعارضي الرئيس قيس سعيد 

"لا يجوز للحيوان ارتداء الملابس - لا يجوز أن ينام أي حيوان في سرير"

بعد أن وعد القائد الجديد سكان مانور بالحرية والإستقلالية وأقنعهم أنهم يعملون لصالحهم وأن ما ينتجونه هو لهم، أصبحوا يجتهدون أكثر من السابق ويعملون بما يقوله دون تفكير، فيقتلون من يعارضه إن لزم الأمر. ويقول جورج أرويل: " طوال تلك السنة كانت الحيوانات تعمل كالعبيد. لكنهم كانوا سعداء في عملهم؛ لم يدخروا أي جهد أو تضحيات، مدركين جيدًا أن كل ما فعلوه كان لصالح أنفسهم ومن سيتبع من بعدهم، وليس لمجموعة من البشر اللصوص والعاطلين عن العمل ".

في الأثناء، وضع القائد حرسا من الكلاب المفترسة لم تجعل أحدا يقترب منه أبدا ليظهر وهو يرتدي أفضل الملابس مع حاشيته بعد أن أقر بمنع إرتداء الحيوانات لها. كما منع أن ينام أي منهم على سرير وكان له أفضل سرير ولحاشيته ثم أقر أن لا ينام أي حيوان مع الخراف لأنّها لا ترتقي إلى مرتبة الحيوان، وهو نوع من التفرقة الاجتماعية التي زرعها نابليون .

في تونس، ألم تمنع عنا مقابلة المسؤولين الذين إذا اخذوا منصبا نسوا شوارع المدينة وازقتها بعد أن ركبوا أفخر السيارات وسكنوا أرقى الأحياء بالعاصمة؟ ألم نؤمر بالتقشف فوجدنا عددا من سياسيينا يملكون أموالا في دول أجنبية وأحياءا كاملة في إسبانيا وغيرها من الدول؟ ألا يرى عديد من التونسيين أنفسهم اليوم مواطنين بدرجة ثانية؟ إذا لم يشاركوا في الحملات الانتخابية لحزب معين أو شخص بعينه، لا يطالهم من انتدابات الدولة أو اجراءاتها نصيب. أكيد لن يعرف عديد السياسيين هذا ما دامت جنسياتهم متعددة، وأعمالهم متنوعة وأموالهم مصادرها كثيرة. وهو ما جعل الرئيس قيس سعيد يتخذ من الحنكة القانونية درعا والإرادة الشعبية سلاحا يغير به وضع البلاد ويعلن به إجراءات 25 جويلية 2021 (انقلاب حسب المعارضين) .

صورة كاريكاتورية من صفحة زفر راهي خلت ( معارضة لإجراءات 25 جويلية 2021)

"جميع الحيوانات متساوية "

إحدى أهم إقرارات نابليون لرعيته هو المساواة بين جميع الحيوانات، لكن الأمر تحول إلى قطيعة بين السلطة والشعب بعد استلام زمام الأمور. لم يعد القائد يستمع لأحد وتحول كلامه إلى دستور لرعيته الذين باتوا يهابون سطوته ويخافون جبروت اتباعه. ولما سئل لماذا يقرب حيوانات إليه ويبعد اخرين؟ رد قائلا؛ "جميع الحيوانات متساوية ولكن بعض الحيوانات أكثر مساواة من غيرها". بعد ذلك، أصبح الحيوانات يفرحون بالقليل مقتنعين بمصيرهم، فقال أحدهم: "بطاحونة هوائية أو بدون طاحونة، ستستمر الحياة كما كانت دائمًا - بطريقة سيئة ".

وكأن بجورج أروايل يصف المشهد السياسي - الاجتماعي التونسي اليوم على لسان الحيوان كما فعل إبن المقفع قبله في كتابه " كليلة ودمنة ". فمعارضو الرئيس قيس سعيد اليوم يتهمونه بأنّه جعل معارفه اقرب إليه من البقية، ووضعهم بمناصب حساسة بعد أن وعد التونسيين بالمساواة. فوالي بنزرت السيد سمير عبد اللاوي الذي تم تعيينه في شهر أوت 2021، على سبيل المثال، هو أحد طلبة الرئيس السابق وأحد منسقي حملته الانتخابية الرئاسية. من ناحية أخرى، جعلت كفاءة السيد عبد اللاوي وقربه من المواطنين  أنصار الرئيس يشنون حملات رقمية مضادة تقوم على إبراز اعماله وكفاءته. ذلك أن الرئيس أصبح يعطي الفرصة لمن حرم منها وهو قادر على تقديم الإضافة ولنا في ذلك مثال في والي بن عروس الجديد السيد عزالدين شلبي .

وفي الأخير، يبدو أنّ طريق تونس اليوم  مظلما للبعض ومنيرا للبعض الأخر، وذلك جلي في الفضاء الرقمي الذي تحول إلى أرض للصراع ومنصة للفكر الإيديولوجي الذي قد يتطرف أحيانا فيصل إلى الشتم العلني والتلب المفضوح. وهو ما يطرح أسئلة متعلقة بالإدارة القانونية للإعلام الرقمي والصفحات المأجورة التي لا يهمها أن تنتهك الحرمات وتتجاوز الأخلاق الاجتماعية وحتى السياسية. ذلك أن السياسة في أصلها أخلاق وحب للمجتمع (السياسي وجد لخدمة مصالح الشعب والمجتمع). من ناحية أخرى، افسح لك المجال عزيزي القارئ لتتعمق أكثر في تحليل المشاهد الكلامية والصور التحليلية التي لم أرد أن اتحامل عليك فيها، بل أود أن تأخذ معي المبادرة في التشخيص والمقارنة بين ما كتب في القرن العشرين ووضع تونس في القرن الواحد والعشرين.