تونس ثورة أم ردة وإعادة انتشار للاستعمار؟


"إذا الشعب يوما أراد الحياة .. فلا بد أن يستجيب القدر"  بأداة الشرط استهل الشاعر الكبير أبو القاسم الشابي شعره الملحمي لاستنهاض عزائم الشعوب ودفعها للمقاومه وحب الحياة والحرية، لكن يبدو أن الطبقة السياسية في تونس أسقطت عمدا أداة الشرط -إذا- هذه وجردت شعر الشابي من ديباجته الشرطيه لتتحول الحكمة الى شعار فضفاض يلوكه الجميع على منوال الشعب يريد والشعب صاحب السيادة والشعب يقرّر ومن ثمة يفتح سوق المزاد حول الشعب فيصبح عظيما وشاهقا صانعا للتاريخ رغم الجهل والأمية والتخلف التي يسود أوساطه عموما.

بدأنا بهذا المدخل النحوي حتى يستقيم لدينا المنطق العقلاني في السياسة فالشعوب والحضارات والدول لا يسير تاريخها وفق الأحلام والأوهام، بل لابد من شرط الفعل والفعل هنا أن الشعوب لا تتحرر ولا تضع إرادة الحياة والحرية هدفها إلا إذا تغير وعيها بنفض السكون والخمول عن عقلها الجمعي ونبذ الخضوع لواقعها السيئ في ممارستها الحياتية، وبهذا ولهذا كانت هناك ثورات وتغييرات استفزها الفلاسفه والمفكرون بنبوغهم وذكاءهم وتلقفها الساسة بحصافتهم وحنكتهم ونفذتها الشعوب وحققتها عندما أدركت ما تريد لمستقبلها.

تونس ثورة أم ردّة ؟

في 14 جانفي من سنة 2011 استسلم الرئيس بن علي وغادر قرطاج نحو السعودية وانهار نظامه وسقط حزب التجمع الحاكم ولا ندري الى اليوم أسرار ذاك الانهيار المفاجئ والسريع.
انطلق إثر هذا فيضان اعلامي واهتمام عالمي غير مسبوق بالحدث التونسي، تزامن مع ضبابية مفتعلة بين مختلف القوى السياسية أدغمت عمدا كل المتناقضات، اليمين واليسار وكل القوى حداثية كانت أو محافظة وحتى من ليس له اهتمام بالسياسة أصبح رأي وشأن.
الكل تحت يافظة البناء الديمقراطي في مشهد فوضوي غريب تخلله الارهاب والاغتيالات والتطرف واللصوصيه كأن تونس تتجهز لحرب أهلية، تزامن مع طوفان حزبي وجمعياتي غير مبرر كإيحاء مغلوط بأن البلاد ستتحول الى جنة من الديمقراطية وحقوق الانسان.

ولم تنتبه القوى التقدمية والحداثية الى الشرك ولم تنتابها الريبة ولا الشك أن ثمة فاعل يدير المشهد خلف ستار الاعلام وداخل الغرف المظلمة، فرغم الهزائم الانتخابية والصعود الاخواني والتمدد الارهابي والانهيار الاقتصادي، لازال البعض والى اليوم يعيش وهم الديمقراطية على وقع تلك الشعارات الجوفاء الساكنة في مخياله الحالم المنبت عن الواقع ولا زال يحدث نفسه ولا يسمع إلا صدى صوته المتفائل بأن ثورة حدثت وأن الشعب لابد سينهض كالعنقاء، دون أن يلتفت لموقعه وخطواته ومسيرته العرجاء والتي كانت سببا في عزلته وهزائمه.

الوهم والتراجع لم يبدأ ليلة هروب الرئيس

التراجع لم يبدأ اليوم أو بالأمس بل بدأ منذ بدأ الرئيس الحبيب بورقيبة يتراجع عن مشروعه الوطني في تثوير التعليم وعقلنته وتعميمه والتخلي عن تنويرالثقافة وتخليصها من الموروث الأسطوري والديني المنغلق، والذي واكبه سياسيا فك الارتباط مع الاتحاد العام التونسي للشغل وتطهير الحزب الدستوري الحاكم من كوادره المتشبعة بثقافة التنوير التحررية (البعض يبرر هذه التراجعات بشيخوخة الزعيم وهيامه بالتفرد والدكتاتورية والبعض يرجعها للضغط الخارجي لفرض سياسة الانفتاح على حساب سياسة الدولة الوطنية، وليس هنا مجال التوسع فيه).

هذا التحول الخطير بدأ بتسطيح التعليم وتفقيره من العلوم الانسانية والفلسفة والآدب وتحييد ثقافة الابداع والتنوّع،ما انعكس مباشرة عن تصحّر وفراغ في العقل الجمعي للشرائح المتعلمة تزامن مع سياسة الدولة لصناعة عقليه استهلاكيه في كل مناحي الحياة، هذا المناخ الذي سمي بالانفتاح آنذاك ساعد القوى المحافظه والرجعيه مثل الاخوان على النهضة والتموقع من جديد بعد أن عزلتهم سياسة العشرية الأولى للاستقلال وذلك بإعادة بناء صفوفهم تنظيميا وترتيب أولوياتهم سياسيا لاختراق المجتمع والدولة.

صحيح أن القوى المحافظة والرجعية استثمرت حاجة الغرب للتصدي للثقافه اليسارية والتحررية القادمة من الشرق وصحيح أيضا أن سياسة الانفتاح الاقتصادي والتخلي تدريجيا عن البناء الوطني دفعت الطبقات الميسورة المعادية لكل ماهو اشتراكي الى التقرب من هذه القوى الرجعية على حساب تحررها الليبرالي، لكن هذه القوى الرجعية لم تجد أمامها معارضة مثقفة ومتشبعة بالحداثة والعلمانية، بل وجدت أمامها صفوف تقدمية ويسارية مبعثرة وعبثية غير مدركة لدورها الاعتراضي الثقافي خارج صراع حكم- معارضة، وتقودها حلقات طلابية حرفية صداها شعارات عن الشعب وزلازله الثورية وإرادته القوية وصنع التاريخ والمجد والخلود والبطولات، مشفوعة باستحضار الشواهد عن أوروبا المتحضرة واشتراكية الصين او كوبا واستقلال فيتنام الوطني وقوة روسيا العلمية ونمط أمريكا الديمقراطية، لكن الفعل السياسي المنظم والمحترف كان الغائب الرئيسي.

كل هذا الهوس والثرثرة النظرية في غياب تام للتواضع بوضع الأرجل على الأرض، والغيبوبة عما يجري في الواقع المباشر سياسة واقتصادا ومجتمعا، كل هذا جعل القوى الرجعية تأخذ مسافة في اختراق المجتمع وتملأ الساحة السياسية وتتجهز للحكم مكان نظام حزب بورقيبة الذي شاخ وهرم وفقد كل طاقاته.
وصفنا هذه الحقبة بالخطيرة لأنها كانت كافيه لظهور جيل جديد من نخب لا تعير أهمية للحداثة والتقدم المجتمعي والسياسي العام بقدر اهتمامها بالتخصص والنجاحات الفرديه اقتداءا بالمجتمعات الاستهلاكية المفككة.

نضج الموضوعي وغياب الذاتي

عشر سنوات من حكم الاخوان وتوابعهم فتكت بالدولة التونسية وفككت المجتمع وعبثت بالاقتصاد وفقرت الشعب وفوتت في مقدراته ومدخراته وخربت ثقافته وقيمه بتعلّة أن نظام بن علي كان دكتاتوريا فاسدا.
والحال أنه (أي نظام بن علي) ورغم ما عليه من مآخذ وتبعيه وفساد، لم يكن يبيّت خراب الدولة ولا يضمر دمار المجتمع وتفكيكه كما فعل عملاء ثورة الفوضى كالاخوان الذين جاء بهم المشروع الصهيوأطلسي.

إذن الواقع المجمع على تقييمه واضح، تونس تعيش أشد أيامها دمارا، وشعبها يتألم حسرة وغبنا ويتجرع الفقر والتشرد معاشا، في ظل تغيبب متعمّد للدولة والمؤسسات عبر حكم العابثين والجهله والجواسيس ونعتقد أن ليس أكثر من هذا موضوعي ناضج للتثوير والتغيير،فأين ترى الذاتي النخبوي الطليعي المحفّز للشعب؟

أيضا، تمهيش دور المرأة في الفعل السياسي والحال أن تموقع المرأة التونسية اجتماعيا واقتصاديا وتعليميا وثقافيا تغيّر وأصبح فعّالا وحان ظرف الانقلاب على الهيمنة الذكورية وتطوير مجلة الأحوال الشخصية وتغيير القوانين والسلوكيات البائدة التي تحقّر المرأة وتحاصرها جنسيا وأخلاقيا، لكن القوى الحداثية لم تنتبه لهذه الفرصه الممكنة لإحداث قفزة نوعية بالمجتمع. خاصة وأن القوى الرجعيه تستهدف بالأساس مكاسب المرأة، لكن وللأسف تُرك للقوى المحافظة المجال لفتح ثغرات سهّلت تشيئ المرأة وإعادتها لمربع الجنس والولادة تمهيدا لنسف مكاسبها وإلغاءا لدورها.

ثانيا، القراءة الخاطئة لدى النخب التقدمية لطبيعة المجتمع الاقتصادية والطبقيه والثقافية من خلال إسقاط مقاربات وتنظيرات لا يكفي أنها أوروبيه وبعيدة عن الواقع التونسي.

ومهما بلغت القوى الليبرالية من تشبث بالحداثة والعلمانية والحرية تظل ثقافاتها عاجزة عن تلبية حاجيات الانسان من فنون وجماليات في الشعر والأدب والمسرح والموسيقى وغيرها وهي مجالات حيوية لتطور الشعوب وتثويرها، فلا يمكن لشعب تسوده الثقافات الرجعية أن ينجز ثورة في السياسة والاقتصاد.
هذه المجالات الابداعية كانت على مدى التاريخ البشري حصرا على القوى التقدمية ومثقفيها وفلاسفتها المختلفون والجريئون على التغيير وابداع الجديد وإلا لماذا سميت تقدمية؟
نعتقد أن الأحزاب والقوى التي تدعي التقدمية واليسارية في تونس لا فقط أهملت سلاحها الثقافي، بل سقطت في المثالية واجترار الماضي والتذيل للعامة ومهادنة الموروث طمعا في استقطاب الجمهور وظلت أسيرة المظاهر والشعارات وعزلت عن النخب النوعية المثقفة.

الحزب الحر الدستوري الاستثناء

قبل الحديث عن الحزب الحر الدستوري، لا يمكننا القفز عن ظاهرة السيدة عبير موسي التي صادمت بتحررها وتسلحت بثقافتها لتتجاوز عقدة الأنثى الخاضعة والثانوية سياسيا ومجتمعيا لتجابه بشجاعة وذكاء وحصافة مظاهر الذكورية المهيمنة ومثل ظهورها وتزعمها لحزب سياسي كبير صدمة إيجابيه أحدثت رجّة كرمي حجر في بركة آسنة في مجتمعات عربية محافظة اعتاشت على خضوع المرأة وسكونها.
لا نبالغ عندما نصف الحزب الدستوري الحر بالاستثناء في مشهد سياسي غرق كلّه في الديمقراطيه المغشوشة والفوضى المتَعمدة وتورّطت أغلب زعاماته مباشرة أو غير مباشرة في ثورة الردّة المبرمجة سلفا، بما فيهم ساسة نظام بن علي من تجمعيين ووزراء وموظفين كبار، هؤلاء الذين كان لهم دور خطير مكّن الاخوان وتوابعهم من اختراق الادارة والمؤسسات وكشف أمن الدولة وشلّ مرافقه وأذرعه.

لأن السياسة لا تقبل الفراغ فقد تمكن الحزب الدستوري الحر بانضباطه التنظيمي من استيعاب المرحلة وقدرته على التعبئة لاسقاط الاخوان ومنظومة ربيع الخراب من ملأ الفراغ الذي أحدثه خمول وكسل بقية المعارضات الوطنية ونجح في جمع أغلبية شعبية وازنة حول مشروعه السياسي والتنظيمي وأثبت أنه الأكثر تشبثا بحداثة المجتمع ومدنية الدولة ورفع السقف بجعل مرحلة اسقاط المشروع الفوضوي الاخواني الى عتبة التحرر الوطني وقد أصاب عين الحقيقة لأن ما حدث في العشرية الأخيرة هو بمثابة إعادة انتشار للاستعمار وتغييرا لأدواته.

لقد مثلت ثورة التنوير التي أطلقها الحزب الدستوري الحر استثناءا وإبداعا سياسيا أتى أكله في تعبئة الشعب وفضح المؤامرات التي تحاك ضد الوطن، عكس بقية الكيانات والأحزاب المعارضه التي أضاعت البوصلة فتاهت وراء الديمقراطية المغشوشة.

ختاما، صحيح أن الشعب التونسي قاوم رغم عفويته وصحيح أيضا أن الحزب الدستوري في طريق مفتوح لاسقاط المشروع الصهيوأطلسي وأن الأمل في مرحلة بناء وطني ديمقراطي أصبح في المتناول رغم الثمن الباهض، لكن التساؤل يتأتى من غياب جبهة وطنية ديمقراطية تعددية جراء تفرد الحزب الدستوري الحر بالمواجهه، تفرّد ربما يكون عاملا لعرقلة بناء ديمقراطية حقيقية متنوعة المشارب وثرية بمختلف طاقات المجتمع التونسي.