القطاع الفلاحي محرّك أساسي والسيادة الغذائية هي الحلّ: على الدولة دعم الفلاح التونسي


حقوق الصورة محفوظة
حقوق الصورة محفوظة
يعتبر الاستقلال الفعلي للبلاد قدرتها على تلبية حاجياتها بمفردها، لاسيّما تأمين الغذاء لشعبها. ومثلما استقلّت البلاد بفضل تضحيات جسام من أهلها، يعتبر بلوغ الاستقلال الغذائي حربا أو معركة يجب أن نضحي من أجلهما لبلوغ الهدف المنشود. وتعتبر الحبوب في تونس الغذاء الأكثر أهمية، إذ تستهلك بلادنا حوالي 3.6 مليون طن منها موزعة كالآتي: 1.2 مليون طن من مواد القمح الصلب والقمح اللين والشعير. وتحتكر الدولة بدورها شراء وتوزيع مادتي القمح الصلب والقمح اللين من الفلاحين، وتحدّد كل سنة الأسعار أخذا بعين الاعتبار كلفة الانتاج والأسعار العالمية لهذه المواد.
 
والملفت للانتباه هو تدخّل الدولة في منظومة الحبوب بدعم سعرها في مرحلة التحويل الأولى والثانية وتوفير منتوجاتها (فارينة وخبز وسميد ومقرونة وكسكسي... ، إلخ) بأسعار مدعّمة للمستهلكين عبر صندوق الدعم، بميزانية تقدّر بمليار دينار سنويا. وتنخفض أو ترتفع قيمة الميزانية مع تغيّر سعر الحبوب في الأسواق العالمية.
ولئن كانت أسعار الحبوب في فترة ما، منخفضة وكانت قيمة الدينار مرتفعة، مثلما كان تدخل صندوق الدعم متحكم فيه، إلاّ أن الأمور تغيّرت خلال السنوات الأخيرة، إذ أصبح توريد هذه المواد عبئا على الميزان التجاري وميزانية الدولة وميزان الدفوعات بعد أن أصبحت الدولة تستورد كامل الاحتياجات من القمح اللين والشعير، أي ما يساوي 1.2 مليون طن سنويا، ونصف الاحتياجات من القمح الصلب أي 0.6 مليون طن حسب الإنتاج المحليّ.
 
وهنا يكمن مربط الفرس حيث أن الإنتاج المحلي من الحبوب يمكننا من تفادي التوريد أي تفادي تفاقم عجز الميزان التجاري وميزان الدفوعات. كما أنّ الإنتاج المحليّ هو بمثابة التأمين الغذائي ضدّ مخاطر ارتفاع الأسعار، بالإضافة لكونه يساهم في خلق الثروة والحركة الاقتصادية ويضمن سيادة غذائية لا تقدر قيمتها بثمن خلال الأزمات.
ويعتبر التوريد لمادة الحبوب ضرورة للدولة لتغذية شعبها. وبما أنّ المواد كلّها مدعمة فكأنّ الدولة بتوريدها وتدعيمها للحبوب هي مدعمة للفلاحة الأجنبيّة على حساب الفلاح التونسي. وكما نعلم كلّنا اليوم أن أغلب الدول تدعّم فلاحيها بشتى الطرق حتى تحافظ على سيادتها الغذائية. فالفلاح الأوروبي على سبيل المثال، يتمتّع بدعم على كل هكتار زراعة حتى يحافظ على ديمومة انتاجه. فالسيادة الغذائية سيادة استراتيجية للدول وقد تضحّي الدول بجزء من ميزانياتها لتدعم الإنتاج. وهكذا تأمّن نفسها ضد الكوارث والأزمات قبل كل شيء وتصدر الفائض لدول مثل دولتنا.
 
ثمّ إنّ الانتاج الفلاحي مرتبط بعدة عوامل أهمّها المياه وجودة التربة والمكننة والبحث العلمي والتمويل والأسمدة والأدوية والبذور ومردودية الاستثمار ودعم الدولة للقطاع والسوق وطاقة الخزن والصناعات التحويلية ومسالك التوزيع والتصدير.
 

تهميش الدولة التونسية للقطاع الفلاحي

 
الملاحظ في تونس هو تهميش الدولة للقطاع الفلاحي بصفة عامّة حيث يعتبر الفلاح في تونس هو الحلقة الأضعف رغم أنّه الركيزة الأولى في خلق الثروة الفلاحية والغذائية. فالحبوب مثلا تسعرها الدولة وتشتريها الدولة ولا خيار للفلاح سوى القبول بقدره المحتوم. وقد كانت الدولة تساهم سابقا في دعم الفلاح ماديا وتقترح عليه عروضا للتمويل والتزوّد بالبذور والأدوية، بالإضافة الى الإرشاد الفلاحي والتكوين والبحث العلمي.
 
لكن فلاح اليوم بتونس، يعاني من عدّة صعوبات جرّاء تراجع الدولة عن مساندتها للفلاح بالإضافة الى تعسّفها عليه بفرض تسعيرات للقمح الصلب والقمح اللين والشعير منخفضة وبحدة على اسعار الأسواق العالمية متجاهلة أبعاد استراتيجية مهمّة على غرار السيادة الغذائية وتأمين الغذاء في حالة الأزمات والكوارث. كما تتجاهل الدولة فكرة أن كلفة الانتاج في الزراعات الكبرى في تونس لا يمكن أن تكون تنافسية مع كلفة الانتاج بأوروبا أو شمال أمريكا. وبالتّالي فإنّ اعتماد السعر العالمي كمرجع للقمح التونسي فيه ظلم كبير للفلاح التونس.
 
كما لا يخفى على أحد أنّ التغيّرات المناخية التي عشناها والتي ستتواصل تأثيراتها خلال السنوات القادمة تحتم علينا التفكير مليّا في سياساتنا الفلاحية والغذائية القادمة حيث أنّ اسعار الحبوب وصلت اليوم الى حدود خيالية سواء القمح اللين أو القمح الصلب أو الشعير. وقد يؤدي ذلك إلى تفاقم العجز التجاري وميزان الدفوعات وتدخّل الميزانية والقروض بالعملة الصعبة حتّى وإن تمكّنا من الحصول عليها بأيّ أسعار وأي أسعار فائدة. وهنا وجب إضافة الفائدة على القروض لتمويل كل العجوزات.
 

هل نرفع في أسعار الحبوب؟

 
ويبدو أنّه لا حلّ لنا اليوم الاّ برفع أسعار الحبوب عند الانتاج حتى يستعيد الفلاح مردوديته وينكبّ على خلق الثروة واستنباط الحلول للنقص الفادح في المياه وذلك عبر الاستثمار في التربة والبذور ورفع الانتاجية في كامل المناطق.
 
ولا حلّ لنا اليوم أيضا إلاّ بقبول دفع ثمن تأمين الغذاء والسيادة الغذائية والتأمين ضد مخاطر الكوارث الطبيعية والأزمات العالمية وتحمّل عبء عدم تنافسية الفلاحة التونسية مع الفلاحة العالمية المتقدّمة عبر دعمها في كلفة الإنتاج، وكذلك توجيه الدعم للإنتاج للفلاحي التونسي بدلا من دعم الإنتاج الفلاحي الأجنبي. كما يجب تسهيل عمل الفلاح التونسي وندعم تركيزه على الإنتاج بذكاء ونؤكد على العمل الجماعي بتوفير كل مستلزمات الانتاج وخاصة البحث العلمي والأسمدة والبذور والتمويل. كما أنّه على الدولة أن تسهّل عملية التسوية العقاريّة للضيعات وأن تحميها من التقسيم أو تغيير صبغتها.
 
كما أظنّ أنّه يجب علينا اليوم القطع مع السياسات القديمة وذلك بتشجيع الانتاج عبر ضخ الأموال في الفلاحة وجعلها استثمار مربح ولو بتدخل الدولة من الأول. وأنا متأكد أنّ اتباع سياسة الاستثمار الفلاحي في المنشآت المائية من شأنه أن يرفع من مردودية هذا القطاع، وستنتفع البلاد من تحسن إنتاجها بصفة عامّة وقد تحقّق السيادة الغذائية وتدفع بعجلة العمل والاستثمار وخلق الثروة في الفلاحة وفي الصناعات التحويلية، لما لا التصدير ... ألم نكن يوما مطمورة روما؟
 

تعليق جديد